أطفال يحملون الأثقال




بقلم/ رشا أرنست




ذهبت في رحلة إلى مكان بعيد ، وجدت نفسي آمر بين أشجار و زهور غاية في الجمال و وجدت هناك أطفالاً يلعبون و يلهون و الضحكة مفروشة على وجوههم و حولهم أهلهم يتحدثون و بأيديهم فناجين الشاي يتمتمون بأحاديث لاهية ، كل هذا وسط الطبيعة الخلابة و سكون السماء بلونها الأزرق الزاهي و صوت ضحكات الأطفال مع تغريد الطيور المُحلقة التي تكاد تصل للسماء. ما شعرت به وقتئذ أن الكل في غاية السعادة و كأن الدنيا كلها كانت في هذا المكان الأخضر. حقيقة رحلتي هذه كانت لمكان بعيد و لكنه داخل عقلي ، هذا المكان ذهبت إليه بخيالي وأنا أشاهد إحدى برامج الأطفال التي يصورونها غالباً كأماكن زاهية و كلها لهو و لعب. ذهبت للمكان بمخيلتي لعلي اقنع نفسي كما يقنعون الأطفال في برامجهم أن هناك حقاً مثل هذه الأماكن، أماكن غير التي نشاهدها يومياً على جميع قنوات الأخبار أماكن غير التي نعرفها، أماكن لا تكسوها الدماء و البارود ، لا يعلو فيها الصراخ ، لا يكون فيها حاكم أو محكوم. وسئلت نفسي: هل أطفالنا تعيش هكذا كما تخيلت ؟ أم هناك طريقة عيش مختلفة نعيشها نحن العرب و نتميز بها؟ أظن فعلاً أننا متميزون حيث حياتنا و حياة أطفالنا هي استعداد للاستبداد و القهر ، حياتنا يملأها العمل .. العمل من اجل لقمة العيش
و يا ليتها تقف عند هذا الحد حد حرمان الأطفال من أقل حقوقهم الضحك و اللعب و التعليم و الوجود وسط عائلتهم. ولكني نظرت الى ابعد من ذلك فنحن المصريون و الحمد لله أفضل بكثير من مَن حرمتهم الدنيا ما هو أكثر من الضحك و التعليم ، مَن هم حُرموا حياتهم و استقرارهم و تساءلت من جديد كم من ظلم يقع على آلاف الأطفال في بلادنا العربية كل يوم؟ كم مرة يُحرمون طفولتهم؟ كيف لا يرون غير بلادهم التي دمرتها الحرب و كست أرضها الدماء؟ كم مرة ناموا و لم يستيقظوا على أحلامهم البريئة ؟ هؤلاء الأطفال الذين حرموا الحاضر ولا يعرفون كيف تكون الأحلام، حرموا حتى من الحياة، ورغم كل هذا يتربون على حب الوطن. الوطن المُكافح، الوطن المسلوب، الوطن المُحتل. يتربون على أن هذه أرضنا ، حقنا ، عرضنا ، ندافع عنها حتى نموت . و في اغلب الأحيان يكون الموت اقرب من الكفاح
تُصيبني حالة من الدهشة عندما أرى أطفالاً بالكاد يستطيعون المشي و أول ما يتعلمونه هو كيف يمسكون بالحجارة أو كيف يحملون لافتة كُتبت عليها " أرضنا ، حريتنا " . أطفالاً لا يدركون ما هم مُقبلين عليه و لكنهم قابلون ، أطفالاً لا يعرفون ما ينتظرهم و لكنهم مستعدون ، أطفالاً غير قادرين على الوقوف و لكنهم صامدون و كأنهم يقولون للعالم كله نحن هنا موجودون
يومياً نُشاهد أخبار متتالية كأنها مسلسلات من القتل و الإرهاب و الدمار و الانفجار و التهديد و التنديد و الكل إما فاعل أو مفعول . العالم أصبح دائرة تكسوها الغبار ، تفترشها دماء ملايين من البشر ، حولها صرخات مدوية من قهر و ظلم و استغاثة و الجميع هنا و هناك قرروا أن الصمت أبلغ من الكلام ، تركوا كل الأمثال و استعانوا بما يحفظ ماء وجوههم . أتسأل ألم يُذكر في كُتبنا المقدسة أن الأرض لن تشرب الدماء ؟ إذا كان هكذا فإلى أين تذهب دماء كل من ماتوا ؟ كيف تختفي ؟ هل استطاعت الأرض ابتلاع كل ما نراه يوميا من دماء صغار و كبار ، مظلومين و ظالمين ؟ أظن انه حتى الأرض تمردت ، لم يتمرد الإنسان فقط ، الأرض أيضاً تمردت كما تمرد الإنسان و أصبح هو السيد على هذا الكون و قرر ان الخالق خلقنا و نحن الآن من نقرر من يعيش عليها و من لا يعيش
حقيقة لا أعلم إلى متى سيظل العالم هكذا . لا اعلم إلى متى سنظل مُشاهدون ، إلى متى سيظل كل مسئول على هذه الأرض يظن أنه ألاحكم .. الأفضل ، انه يفعل الصواب و أنه على حق و في النهاية يغسل يديه و يردد "إني بريء من دم هؤلاء الأبرار" . لا أعلم كم دفعوا ثمن حكمة هؤلاء؟!
و لكن ما أعلمه و يعلمه الكثيرون أن في كل وطن أبطال من خلفه يحفظونه و يُسلمونه لأولادهم . و لن ينتهي وطن يعيش بقلوب أولاده مهما مرت عليه عصور من الظلم . سيظل دائماً الأمل و الرجاء أن الأوطان تلد أبطالاً يحملون أوطانهم فوق رؤوسهم حتى يظل دائماً عالياً فوق الجميع .

Comments